مقالات وأراء

الدكتور ربيع الغفير يكتب : في ملكوت رب الناس

إلهى ما أبدع صنعك وما أجمل خلقك وما أروع تصويرك وما أقدرك على تنظيم الكون وتدبير شئونه فى انسجام مبهر وتناسق عجيب , هذه الشمس الجميلة التى تشرق كل يوم من مشرقها ،ساطعة ناصعة ،تفئ على الدنيا دفئها ونورها ،وتأخذ دورتها لتغرب فى آخر النهار من مغربها ،ليأتى القمر بنوره الفضي اللامع ، ويحل الليل بسكونه وظلامه محل النهار بحركته وصخبه ،لم يتخلف أحدهما فى موعده يوما ،ولم يسبق أحدهما الأخر .

لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ يس :40

ترى ..ماذا يجري لو كان الزمان كله ليلا ،أو كان كل الدهر نهارا ، أكانت تستقيم الحياه ؟ وتتأتى عليها الحياة ؟

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) القصص : 71-73

هذه السماء البديعة وما فيها من عجائب الأفلاك ، وما تحوي من صنوف الموجودات والمخلوقات ، حينما تدخلها الشمس ليخرج منها القمر ،ويدخلها القمر لتفارقها الشمس ، فى دوره منتظمة متعاقبة فى غير خلل ولا إنقطاع ..

وهذا القمر الساطع الذي يقف وحوله النجوم متضائلة فى جواره كأنه قائد وسط جنوده ،أو كأنه عروس مزففة وحولها وصيفاتها .

يا لروعة الفن ، ويا لجمال الإبداع والتصوير ، حينما ترى هذه اللوحة الفنية وقد سطعت على صفحة الماء ،فتنظر إليها ، فتخال أنك ترى سماء تحت سطح الماء .

ثم هذا الكون العلوى بكل ما فيه –ما علمنا منه وما لم نعلم – كيف يبقى هكذا مرفوعا بلا عمد ؟

وهذه الارض المنبسطة ،المترامية الأطراف ، المتباعدة الحدود ، كيف تحمل هذا الكم من المخلوقات دون أهتزاز ولا اضطراب ؟ وهى أرض من السبع ارضين لا نعلم عنهن إلا النذر اليسير

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا الطلاق :12

وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا ۖ وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ(33) الأنبياء :31-33

ثم نترك هذا المشهد الواسع ،لننظر فى ظاهرة أخرى أكثر عجبا .

هذا الماء الذى تحيا به كل الكائنات وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ الأنبياء :30

يتكون هذا الماء من عنصرى الأكسجين والهيدروجين ، وأحدهما يشتعل والآخر يساعد على الاشتعال ،ومع هذا يستخدم هذا الماء فى إطفاء النار , كيف هذا ؟وما سر هذا التركيب العجيب ؟

إذا كان الأمر كذلك إذاً، فلا عجب أن تشتعل البحار يوم القيامة ،يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ تشتعل لأنه سيسلب منها سر التركيب ، وتعود للعناصر خواصها وترجع إليها قوانينها وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ

ثم كيف تروى من هذا الماء الواحد فى خواصه وصفاته كل الأشجار والنباتات ،ثم تخرج بعد ذلك مختلفة الألوان والطعوم ،فمنها الأحمر ، ومنها الأصفر ،ومنها الأخضر ، ومنها الأبيض .

ومنها الحلو ، ومنها المالح ، ومنها المز ؟

يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ الرعد :4

وهذه النبتة الصغيرة (ورقة الفرصاد )ورقه التوت ، واحدة فى طعمها ونوعها وهيئتها ، ومع ذلك تأكلها البعير فتخرج البعر، وتأكلها, وتأكلها البقرة فتخرج الروث ، وتأكلها الدودة فتخرج الحرير ، وتأكلها النحلة فتخرج العسل المصفى يشفي به الناس .

ثم لو تركنا هذا الكون الفسيح ، علويه وسفليه ، بكل ما فيه وأقتربنا من عالم أخر لا يقل إبداعا وإبهارا ، هو عالم النفس البشرية الذى قرنته فى العظمه بعالم الكون( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) فصلت :53 ، كيف تعمل هذه الأجهزة بهذا التقسيم والتنظيم بلا كلل ولا ملل ، ولا أعتراض على نوع الوظيفة ودرجتها ؟

وهذه الجيوش الجرارة من الخلايا المناعية التى تدفع عن هذا الجسد ما يريد به الضر من أنواع الأمراض والأدواء ؟

وهذا التفاهم الإشارى السريع بين المخ والأعضاء الذى تنبعث منه إليها الإشارات فتصدر الحركات والأفعال كلمح البصر ؟, ثم كل هذا .. هذه الروح التى تسكن أبداننا ، ونحن بها أحياء ، ما هى ؟ وأين تكون ؟ وأين تصير بعد أن تفارق الأبدان ؟, وكيف أن هذا العلم والطب بصولته وجولته وصولجانه يقف حائرا أمام هذا اللغز ؟ ولا يعرف إلى الآن سر الحياة أو الموت ؟

نعم .. إنه أنت يا رب ، كل شئ فى الحياه شاهد بوجودك ،ناطق بعظمتك وخلودك ، مقر بعلمك وقدرتك ، وإحاطتك بكل خبايا الكون لَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (الملك :14 ) .

ثم يجدر بنا يا إلهى بعد هذا الغوص العميق فى أفاق الكون النفسي أن نطفو إلى عالم الطبيعة لنحنى الرؤوس فى إعظام لبعض عظمتك فيها ،ونقف مشدوهين أمام خطوط الروعة التى سطرتها قدرتك ،لنرغم أنوف أعدائك ،ونكسر نفوسهم ونقول لهم كما قلت:

وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (الاسراء :85)

حتى يكفوا عن صلفهم وغرورهم ،ويعودوا ساجدين أمام هذا الفن العجيب .

هذا العلم المحيط يا الهى الذي به ترزق الفيل مع ضخامه حجمه ولا تنسي النمله مع ضآله حجمها (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) هود :6

هذا الطبيب الذي يدل بعلمه ويذهو بطلبه تسلب أمامه روح مريضه من جسده فيقف حائرا عاجزا ، لا يستطيع الحركة او التصرف .

(فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ*تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) الواقعه :86-87

ان الطبيب له علم يدل به *ما دام للمرء فى الأيام تأخير

حتى إذا انقضت أيام رحلته *حار الطبيب وخانته العقاقير

ثم هو بعد قليل يموت بما كان يشفي منه الناس من مرض . وغيرها من مشاعر العظمة والاقتدار .

قل للطبيب تخطفته يد الردى ** ياشافى الامراض من أرداكا؟!

قل للمريض نجا وعوفى بعد ما ** عجزت فنون الطب من عافاكا ؟

قل للصحيح يموت لا من عله ** من بالمنايا يا صحيح دهاكا ؟

قل للبصير وكان يحذر حفره ** فهوى بها من ذا الذى اهواكا ؟

بل سائل الأعمى خطا بين الزحام ** بلا اصطدام من يقود خطاك ؟

قل للجنين يعيش معزولا بلا ** راع ومرعى من الذى يرعاكا؟

قل للوليد بكى وأجهش بالبكا ** لدى الولادة ما الذى ابكاكا ؟

وإذا ترى الثعبان ينفث سمه * * فأسأله من ذا بالسموم حشاكا ؟

وأسأله كيف تعيش يا ثعبان أو ** تحيا وهذا السم يملأ فاكا ؟

وأسأل بطون النحل كيف تقاطرت ** شهدا وقل للشهد من حلاكا ؟

بل سائل اللبن المصفى كيف كان ** بين دم وفرث من الذى صفاكا ؟

إنه جواب واحد ، ونداء واحد ،و إقرار واحد إنه أنت يا رب العالمين تقولها الدنيا كلها ويعترف بها الكون كله من آمن بك ومن كفرك ومن أهتدى بنورك ومن تخبط فى عمايه الجهل وغوايه الضلال .

سبحان الواحد الأحد ..سبحان الفرد الصمد ..سبحان الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ..سبحان الذى رفع السماء بلا عمد ..سبحان من بسط لنا الأرض ومن مهد .. سبحان من كل الكون قد سجد .

سبحانك اللهم أنت الواحد ..كل الوجود على وجودك شاهد

يا حى يا قيوم أنت المرتجى ..وإلى علاك عنا الجبين الساجد

ما فى الوجود سواك رب يعبد ..كلا ،ولا مولى هناك يقصد

أنت الإله الواحد الحق الذى ..كل الوجود يقرله ويشهد

إلهى ..هذا النداء العظيم ،الذى يملأ النفس روعه وجلالا ، ويفئ على القلب أمانا وإطمئنانا ،ويشع فى الكيان البهجة والسرور .

أتسمح لى يا إلهى أن أفخر بكونك لى ربا ، وأعتز بكونى عبدا ؟

أتسمح لى أن يمتد طمعى إلى عفوك مع تقصيري ،ورحمتك مع ذنوبى ، ولطفك وكرمك مع جرأتى عليك ؟

إلهى أيضيرك أن تغفر لى ،أيكبر عليك –حاشاك – أن تهب لى زلتى ؟

فأنا لا شئ فى ملكك ، أنت غنى عن عذابى ، وأنا فقير إلى رحمتك .

نعم يا إلهى ستسمح .. لأنك كريم والكريم يسمح ولأنك غفور ورحيم وأرحم بنا من امهاتنا .

اللهم انت العليم فلا يجهل وأنت الحليم فلا يعجل وانت الكريم فلا يبخل فاغفر لى ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت ، وما أنت أعلم به منى أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت

وأنت على كل شئ قدير .

اظهر المزيد

admin

مجلس إدارة الجريدة الدكتور أحمد رمضان الشيخ محمد القطاوي رئيس التحريـر: د. أحمد رمضان (Editor-in-Chief: Dr. Ahmed Ramadan) تليفون (phone) : 01008222553  فيس بوك (Facebook): https://www.facebook.com/Dr.Ahmed.Ramadn تويتر (Twitter): https://twitter.com/DRAhmad_Ramadan الأستاذ محمد القطاوي: المدير العام ومسئول الدعم الفني بالجريدة. الحاصل علي دورات كثيرة في الدعم الفني والهندسي للمواقع وإنشاء المواقع وحاصل علي الليسانس من جامعة الأزهر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »